
قصة الرجل الذي تقدم للقاضي كي ينصفه من ظلم جنود الوالي فكان القاضي جباناً وأكثر ظلماً
خرج الشيخ من المحكمة، وحوله الحاضرين صامتون كالأشباح. لم يجرؤ أحد أن يصفّق له، ولا أن يرد عليه، ولكن شيئًا في القلوب تحرك. كانت كلماته مثل الرصاص، تخترق الأسوار والجدران، وتصل إلى القلوب التي كانت تتوهم أن العدل لا يزال قائمًا.
أما القاضي، فقد بقي في مجلسه، مطأطئ الرأس. لم يرد، ولم يبرر، ولم يتكلم. فقط راح يحدّق في الأرض، كأنه يرى فيها حفرة لدفن ضميره.
في الليل، عاد القاضي إلى بيته، وبينما كان جالسًا وحده، شعر بثقل شديد في صدره. تذكر ملامح الشيخ، ودموعه، وصوت أطفاله وهم يصرخون وسط الظلمة. لم يكن يستطيع النوم.
قال لنفسه:”هل نحن قضاة حقًا؟ أم مجرّد واجهات تُرضي الناس بالكلام وتُخيفهم بالشعارات؟!”
ثم قام إلى نافذته، ورفع رأسه إلى السماء:”اللهم إن كنتَ تعلم أني لم أظلم، فاغفر ليعجزي، وإن كنتُ شريكًا في صمت الجُبناء، فخذني ولا تذرني في زمرة القُضاة.”
بعد عام كامل، عاد الشيخ إلى المحكمة، لكن القاضي لم يكن هناك. لقد تنحّى عن القضاء، وكتب وصيّة طويلة وزّعت على الناس، جاء فيها: “تقاعدتُ عن القضاء لا لأنّي كرهت العدل، بل لأنّي شعرت بالعجز أمام الظلم. وإن أسوأ ما يفعله القاضي أن يُبرّر للظالمين صمتَه، وأن يترك المظلوم يغرق في الدعاء وحده.”
أما الحاج أحمد، فقد بُني له بيت جديد من صدقات أهل البلدة، وعاد له حصانه بعدما تاب أحد الجنود وردّ له ما أُخذ منه.
وصار الناس يروون قصته للأجيال، ويقولون: “إن كلمة واحدة من مظلوم، تهزّ عروش الظالمين، وإن القاضي الذي يخاف منصبه أكثر من ربه، لا يُرجى منه عدل ولا خلاص.”
ليست هذه القصة مجرّد حكاية عن شيخ مظلوم دخل دار القضاء يبحثعن حقه، بل هي مرآة صافية تنعكس فيها صورة الإنسان عندما يُسلب حقه في وطنه، وحين لا يجد من ينصره إلا الله.
في كل بيت فقير، هناك رجل مثل الحاج أحمد، يعمل بعرق جبينه، لا يتكئ على جاه ولا مال، ويعيش بين أهله بكرامة رغم شظف العيش. وفي كل دار قضاء، ربما يوجد قاضٍ مثل صاحبنا، بين مطرقة السلطة وسندان الضمير، يحاول النجاة بالكلمات، بينما المظلوم يغرق في بحور الانتظار.
هذه القصة تعلمنا أن العدالة ليست منصبًا، بل ضميرٌ حيّ.
فليس القاضي هو من يرتدي السواد ويحكم من فوق منصة مرتفعة، بل القاضي الحقيقي هو من يحمل في قلبه همّ الناس، وينتصر للضعفاء ولو بكلمة، ولو بموقف، ولو برفضٍ صامتٍ لا يرضى المساومة على كرامة العدل.
والعبرة الأهم: أن الظلم لا يُزال بالصمت، ولا تنطفئ نيرانه بترديد الأدعية فحسب.فالعدل بحاجة إلى صوتٍ شجاع، إلى قلم لا يخاف، إلى قرار لا يهتز تحت وقع الجبناء.
القاضي في قصتنا لم يكن فاسدًا، لكنه كان عاجزًا. والعجز في مقام القضاء، خيانة.
والشيخ العجوز لم يكن خطيبًا مفوّهًا، لكنه كان صوت المظلوم، وسيف الحقيقة. كلمته الأخيرة كانت أبلغ من كل الأحكام، لأنها خرجت من قلبٍ موجوع لا يطلب غير الإنصاف.
كم من قاضٍ جلس على كرسيه وسكت، وكم من مظلوم خرج من القاعة ليبكي في زاويةٍ لا يراها أحد، لكنه دعا، وربه سمع. لأن من لا يملك من أمره شيئًا، يملك بابًا لا يُغلق، باب السماء، الذي لا يُردّ عنده دعاء.
وهكذا…
علّمنا الحاج أحمد أن الحق لا يُسقط بالتقادم، وأن كرامة الإنسان لا تُقاس بثمن ما يملك، بل بما يؤمن به.
وعلّمنا القاضي، أن الحياد في زمن الظلم ليس عدالة، بلتقصير يلبس ثوب الهيبة.
لمشاهدة الفيديو :





