
قصة بلانش مونييه مأساة فتاة هزت باريس
ومات الشاب الذي أحبّته بلانش، ولم تعرف بموته أبدًا. كانت تعيش في زمن آخر… في مكان آخر… لا يصل إليه شيء من الحياة.
حين نُشرت صور بلانش وهي على سرير المشفى، اندلعت عاصفة في الصحافة الفرنسية. سُميت القضية بـ “الفضيحة التي عرّت المجتمع الأرستقراطي”. لم يصدق الناس أن أمًا يمكن أن تفعل هذا بابنتها.
أُلقي القبض على السيدة مونييه، ونُقلت إلى مركز احتجاز خاص، لكنها توفيت بعد 15 يومًا إثر إصابتها بأزمة قلبية.
أما شقيق بلانش، فقد تم التحقيق معه، لكن لم تُثبت عليه المشاركة، فحُكم عليه بثلاثة أشهر فقط، وغادر بعدها إلى الريف ليختفي عن أعين الناس.
بعد إخراجها من الجحيم، لم تستطع بلانش أن تعود للحياة الطبيعية. لقد تغيّر عقلها، وسقطت ذاكرتها في حفرة لا قرار لها.
نُقلت إلى مصحّة عقلية، حيث عاشت آخر عشرين سنة من حياتها في صمتٍ تام. لم تكن تتحدث، ولا تتحرك كثيرًا، فقط تحدّق في الفراغ بعينين أنهكهما الظلام.
وفي يومبارد من عام 1920، رحلت بلانش عن الدنيا، بهدوء يليق بمن عاش عُمره في عذاب.
قصة بلانش ليست مجرد حادثة فردية، بل مرآة صادمة لحقيقة مريرة: أن الظلم أحيانًا لا يأتي من الغرباء، بل من أقرب الناس إلينا. وأن بعض البيوت مهما زُيّنت بالذهب، قد تخفي بين جدرانها جحيمًا لا يُطاق.
لقد هزّت مأساة بلانش ضمير المجتمع الفرنسي، ودفعت لتعديل قوانين العنف الأسري، وطرحت لأول مرة السؤال المخيف: من يراقب ما يحدث خلف الأبواب المغلقة؟
قصة بلانش مونييه ليست فقط فصلًا من فصول الجرائم الأسرية، وليست مجرد حادثة فردية وقعت في ركن من أركان باريس قبل أكثر من قرن، بل هي صرخة مكتومة خرجت من رحم الصمت، لتعبر الأزمنة وتوقظ فينا أسئلة ما زلنا نتهرب من مواجهتها.
كيف لفتاة كانت في ريعان الشباب، تتمتع بالجمال والرقة والطموح، أن تتحول إلى سجين في غرفة معزولة، تأكل من فتات الخبز، وتعيش على الضوء الباهت المنبعث من ثقب الباب، دون أن يشعر بها أحد؟كيف تحوّل الدفء الأسري إلى جليدٍ قاتل، والحنان المفترض إلى سطوة تتحكم بمصير إنسان وتدفعه نحو الجنون؟
إن ما حدث مع بلانش هو تذكير صارخ بأن السلطة الأبوية حين تنحرف، تتحول إلى آلة تدمير. وأن الحب حين يُجرَّم، يصبح الجمال لعنة، والعاطفة سجنًا، والمشاعر تهمة تستوجب العقاب.
بلانش لم تكن مذنبة، ولم تكن مجنونة. بل كانت ضحية لفكرة مشوهة عن الشرف، وعن التحكم، وعن “ما يجب أن يكون”. حُبست لأنها أحبّت، وسُجنت لأنها أرادت أن تختار شريك حياتها بوعي وحرية. لكن المجتمع الذي كانت تنتمي إليه، لم يرحمها… لم يحتمل اختلافها، ولم يتحمل تمرّدها.
وفي هذا المشهد التراجيدي، كان الغريب هو من أنقذها، وليس القريب. كانت رسالة مجهولة – ربما من ضمير حيّ – هي التي أخرجتها من العتمة، وليس يد الأم التي يفترض أن تحتضن وتربت وتُسامح.
بلانش، ورغم معاناتها التي تجاوزت كل تصور، لم تمت في اللحظة التي سُجنت فيها، بل ظلّ في عينيها ضوء خافت يكشفعن أمل كان يقاوم… لكن حين غابت شمس العالم عن نوافذها، غابت معها الحياة من داخلها.
ومن هنا، ينبغي أن ندرك أن الحرمان من الحرية هو أسوأ أشكال الموت البطيء، وأن الجدران لا تحمي دائمًا، بل قد تخنق، وأن الصمت لا يعني السلام، بل أحيانًا يكون غطاءً للوجع.
قصة بلانش تفتح أعيننا على كل فتاة تُمنع من التعليم، أو تُجبر على زواج لا تريده، أو تُحاصر داخل جدران بيتها فقط لأنها قررت أن تفكر بطريقة مختلفة. تذكرنا بكل صرخة لا تصل، بكل دمعة لا يراها أحد، بكل مظلوم يعيش بيننا ولا نعرف عنه شيئًا.
ما أكثر البيوت التي تُشبه قصر مونييه في ظاهرها، لكنها تخفي وراء الأبواب قصصًا لم تُكتب بعد. وربما هناك اليوم “بلانش أخرى” تنتظر من يشعر بها، من يسمع صراخها حتى وإن لم تصدر صوتًا. فكن أنت تلك الرسالة المجهولة التي تُنقذ إنسانًا من قيد الظلام.
بلانش مونييه ليست فقط حكاية من الماضي… بل هي مرآة لواقع مؤلم لا يزال يتكرر، بصور مختلفة، فيمجتمعات عديدة. فلنكن نحن البداية في كسر هذا التكرار.