
“أم عراقية جابت كفنها بيدها… وقالت: سلموه لابني لو بعدني عايشة!”
في أحد أحياء بغداد القديمة بيت صغير تتوسطه شجرة يابسة وواجهة جدران متآكلة تعيش أم قاسم امرأة تجاوزت السبعين ملامحها حفرتها السنين ويديها ارتجف فيها التعب قبل العمر.
كل من يعرفها يشهد بأنها أم عظيمة ربت أولادها الخمسة بعد وفاة زوجها في حادث مفاجئ يوم كانت الدنيا تمطر فقرا وهما.
أم قاسم ما كانت تحب تحكي عن تعبها.
لكن وجهها يحكي وصمتها يصرخ وعيناها كل ما شافت واحد من أولادها تشبع منه بنظرة كأنها بتودع.
سنين طويلة راحت من عمرها وهي تغسل ملابس الجيران وتشتغل بالطبيخ والخبز والكنس حتى بس توفر مصاريف المدرسة والدفاتر والكيسونة المدرسية لأطفالها.
كانت تحلم… ما بيها شي تحبه غير حلمها تشوف قاسم ابنها الكبير يصير دكتور!
كبر قاسم وطلع مثل ما كانت تحلم أمه. شاطر مؤدب محبوب.
ودخل كلية الطب بفضل معدل عالي رغم فقرهم.
أمه باعت نص ذهبها علشان تسجل له بكلية أهلية بعد ما ما حصل قبول مركزي.
وبعدين بدأت تبيع الباقي شوية شوية كل سنة علشان تسد مصاريف السكن والكتب والملابس.
قالت له مرة
يمه ما أريد شي منك… بس لا تنساني إذا يوم كبرت وصرت طبيب!
وقاسم كان يبتسم
يمه أنتي روحي… إنتي أول شي يظل ببالي قبل النفس.
بعد التخرج سافر قاسم إلى أربيل يشتغل بمستشفى خاص.
ثم جاءه عرض للسفر خارج العراق منحة تدريب في تركيا.
كان فرحان والأم كانت فرحانة… بس قلبها يقول لها
راح يطير وما يرجع!
ومرت السنوات. خمس سنين.
ولا زيارة ولا اتصال إلا كل فترة مكالمة دقيقتين.
وفي كل مرة كانت تقول
يمه اشتريت بيت
فيرد
بعدني ما استقريت دعيلك دايما والله مشغول بالشغل.
لكن في الحقيقة قاسم اتزوج وخبى الخبر عنها.
في يوم دخل عليها جارهم القديم وقال لها
أم قاسم شفنا صور ابنچ عالإنستغرام كان عامل حفلة كبيرة عرسه!
كأنها طاحت بمكان عالي قلبها وقف وركبها ما عاد يشيلها.
رجعت البيت وسحبت الصندوق الخشبي اللي كانت مخبيته سنين طلعت منه آخر قطعة ذهب وخبأت الكفن الأبيض اللي اشترته قبل سنة وقالت لأصغر أولادها
يمه إذا متت قبله خلوه يلبسلي هالكفن…
وإذا عشت لين يرجع سلمه بإيدي وقولوله هاي أمك كانت تستناك!
بعد ما سلمت الكفن لولدها الصغير صارت أم قاسم كل يوم تنظف البيت وتفتر حول الصندوق كأنها ترتب مشاعرها مو بس أغراضها.
كل ما يدق الباب تقف تمشي برجفة تقول يمكن رجع… يمكن حس.
لكن دايما كان الطارق يا جاري يا بائع خبز يا ابن الجيران.
ما في يوم دخل عليها قاسم.
وما في يوم اتصل يسأل حتى يمه شلون صحتج
وكلما سمعت اسم قاسم كانت تتنهد وتقول
ما أدري وين صار قلبي… لو يدرون بيه جان دفنوه يمه!
بعد أشهر قرر ابنها الأصغر حيدر يتزوج.
وجه دعوة لكل أخوته ومن ضمنهم قاسم.
ويا لفرحة أم قاسم يوم سمعت إن قاسم موافق يجي العرس!
رجعت ترتب البيت جهزت فراشه اشترت له دشداشة جديدة وعطرت الغرفة بالمسك.
قالت بصوت مكسور للنسوان
يمه قاسم يجي! يمكن أحضنه وأموت على ريحته بس
بس يوم العرس الناس تجمعت الطبول دقت والفرح علا
بس قاسم ما جا.
اتصل وقال
أعتذر عندي عملية مهمة ما أقدر أترك المستشفى.
وما قال سلمولي ع أمي.
رجعت أم قاسم للغرفة مسحت الدموع بصمت وفتحت صندوق الكفن ولفت قطعة القماش البيضاء على صدرها.
جلست حطت صورة قاسم على حضنها وقالت بصوت ما أحد سمعه غير الجدران
يمه أنا بعدني عايشة بس قلبي مات.
وفي الليل نامت على الأرض قدام صورته والكفن ملفوف كأنها تودع العمر وتدفن حلمها بيدها.
ولما صحى أولادها لقوها ساكنة بدون صوت ودمعة نشفت على خدها.
ما ماتت.
بس انكسر قلبها لدرجة خلتها تنام يومين بدون وعي.
ودوها المستشفى.
وصل خبرها لقاسم.
حجز طيارة ورجع للعراق.
وصل للبيت لقى حيدر ينتظره عند الباب وقال له بمرارة
أمي ما ماتت بس يمكن تموت لو شافتك.
دخل قاسم وشافها على السرير وجهها شاحب عيونها تغطيها الدموع بس أول ما شافته ابتسمت.
وقالت بصوت خافت
اجيت أخيرا
قرب منها مسك